recent
أخبار ساخنة

الفساد المالي وعلاجه الجذري

المدرب
الفساد المالي وعلاجه الجذري (كيف يفكر الحرامي؟)
عندما كنت أُحضِّر لرسالة الدكتوراه، حاولت البحث عن موضوع مهم وله تطبيقات في الحياة المعاصرة، لاعتقادي أن الرسائل الجامعية ليس لها فائدة للمجتمع إلا لو كانت تمس الواقع المعاش وتعطي حلولا يمكن تطبيقها، ولذلك اخترت موضوعا رأيته مفيدا وعنوانه: (الأصول الحاكمة لقوانين مكافحة الفساد المالي، دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون الدولي)
ولظروف معينة توقفت عن الدراسة، ولكني ما زلت مهتما بهذا الموضوع من خلال عملي وكتاباتي، ومن المعروف أن كافة دول العالم تخسر سنويا مئات المليارات بسبب الفساد، والقوانين وحدها لن تحل المشكلة وتمنع الفساد، وبرأيي أن السؤال المفصلي للموضوع هو: كيف يمكن منع الناس من الوقوع أصلا في جريمة الفساد المالي؟
والقوانين الدولية التي أصدرتها الأمم المتحدة، والقوانين التي تصدرها الدول لمكافحة الفساد، ليست مهمتها حل المسألة بشكل جذري، فهي قوانين وضعت لإقرار العقوبات، ولبيان المبادئ التي يمكن من خلالها تعريف الفساد المالي، والقيم والضوابط التي تحكم العمليات المالية بشكل عام، وبالتالي من يخالف هذه المبادئ والضوابط سيكون نشاطه مصنفا على أنه فساد مالي ، ولشرح فكرة القوانين هذه لمن لم يطلع على هذه المواضيع، سأضرب لكم مثالا بسيط، مثلا: (بالنسبة للموظف في مؤسسة أو شركة لو حصل على مبلغ ما من أحد الأشخاص، فما هو الفرق بين كونه هدية أو رشوة؟ وما هي الحد المالي والحالات التي تنقلب فيها الهدية لرشوة؟)
في بلاد معينة حدد القانون مبلغ يقارب 50 دولار (لو قُدِّمت نقدا، أو عينا كأزهار مثلا، أو أي شكل آخر) وبالتالي ما فوق هذا المبلغ يُعد رشوة، ولكنها برأيي تبقى محاولة قاصرة لضبط الموضوع، لأن المفروض أن يُحدد ضمير الموظف نفسه هذا الأمر، ويعرف كيف يُفرق بين الرشوة والهدية، لأن القانون يمكن اللعب عليه وتضليله، ولا يمكن إيجاد مراقبة لكل صغيرة وكبيرة في أي مؤسسة لأن هذا مكلف جدا وصعب إداريا، وفي التاريخ الحديث هناك رؤساء دول محترمة، قُدِّمت لهم هدايا بما يعادل 100 دولار فقط، ومع ذلك قاموا بإيداعها في وزارة المالية لأنها تتجاوز الحد المسموح به قانونيا، أما الهدايا الكبيرة والغالية فهي طبعا تجمع وتوضع في متحف خاص
وقد كانت معايير سيدنا محمد واضحة في هذا المجال، كما جاء في السيرة: وَظَّف رسول الله رجلا "على جمع أموال"، فلما حاسبه، قال الرجل: (هذا مالكم وهذا هدية)، فقال رسول الله مستنكرا: (هلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟) ونرجع مرة أخرى للسؤال الجذري هل القوانين ورجال الاستخبارات والكاميرات يمكنها منع الفساد؟ وقد طرحت الموضوع في محاضرة لأحد مدراء البورصات العربية، فقال أن الفساد مشكلة متفاقمة وتكبر يوميا، وقد تطور لشكل جديد يُسمى شبكات الفساد، وهو أن يتفق عشرة أو عشرين شخص في مناصب حساسة، على ممارسة الفساد، وحينها من الصعب كشفهم لأنهم قادرون على إخفاء آثارهم والتستر على تحركاتهم، وترتيب الأوراق بشكل قانوني يصعب معه كشف الفساد ولسنوات عدة ، ويوجد مشكلة أخرى على الناحية الأخرى المعاكسة، وهي أن يقوم الموظف بتعطيل العمل وتأخيره وتعقيد الإجراءات على الناس، بحجة أنه لا يريد أن يحصل أي فساد ولا يريد تحمل مسؤولية أية خطوة أو توقيع لأنه ربما يُحاسب بتهمة الفساد لاحقا، وهو كذلك بهذه الصورة يتسبب بخسائر كبيرة وتعطيل مصالح الناس وهروب الاستثمارات، ويجب أن يكون هناك ما يضمن للطرفين الموظف والمراجع حماية أنفسهم ومصالحهم، وضمان سلاسة سير الأعمال، ولا يوجد ضامن أفضل من الضمير الصاحي للبشر.
ومرة كنت في لقاء مع مدير شركة إنتاج إعلامي، فسألته عن موضوع الفساد، فحكا لي عن طرق ذكية جدا ولا يمكن تتبعها يدفع من خلالها الفاسدون الرشاوي للموظفين، لكي ترسى المناقصات والعقود على شركات معينة، وأن الشركات في دول فاسدة أصبحت في حالات معينة مضطرة لدفع الرشاوي أو ستخرج من السوق لعدم قدرتها على المنافسة وتحصيل العقود.
فالخلاصة أن الفساد المالي والإداري لا يوجد حل له حقيقي عن طريق القانون والإجراءات الإدارية ونظم المراقبة مع أهميتها، بل يجب أن نلجئ للحل الجذري وهو الحل الأخلاقي، وهو أن يمتنع الشخص من تلقاء نفسه من تلقي الرشوة أو تعطيل العمل، لأنه إنسان صاحي الضمير، يتمتع بالأخلاق والقيم الصحيحة، والتي تمنعه من المشاركة في شبكات الفساد أو السكوت عليها، والتي تنشئ في المجتمعات والمؤسسات بشكل سريع اليوم مستخدمة كل التقنية والذكاء عند البشر.
ومن خلال دراستي لهذا الموضوع بشكل علمي، وصلت لجملة من الأسباب أهمها فهم كيفية تفكير الشخص الحرامي، وهذا يعني فهم الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري بقسميه الأيمن والأيسر، ودراسة التبعات التي تنشأ عن غياب التوازن بين فصي الدماغ، فاتخاذ القرار بالفساد من عدمه هو وليد طريقة تفكير معينة للشخص، كان قد تدرب عليها خلال سنوات طويلة من حياته وتبدأ من الطفولة المبكرة، وقد شر

مة وإفادة، وفيه أجر في الدنيا والآخرة
فقالوا له: هذا أمر صعب ولن يوافق عليه أحد من مجلس الإدارة، بينما سيوافق الكل بسرعة على برنامج الكاميرات والمراقبة، فالوعي حتى الآن في الشركات لم يصل لهذه المرحلة من الفهم
.
ولذلك برأيي ستظل الدول والمؤسسات والشركات تعاني من الفساد وخسارة مئات المليارات بسبب الهدر والسرقة والاستهتار وعدم مراعاة الضمير وانخفاض الجودة، وذلك حتى يصلوا لمرحلة فهم راسخ أن الاستثمار الحقيقي هو في البشر وبنائهم فكريا وروحيا، وهذا ما أدركته الدول المحترمة فتغير واقعها وأصبحت من أنجح دول العالم وأكثرها استقرارا خلال عقود قليلة
وآخر مثال قريب للحالة العربية هي سنغافورة، ذلك البلد المحترم والناجح رغم أنه تقريبا بدون موارد طبيعية ويستورد حتى الماء، والذي ترأسه اليوم امرأة مسلمة، ويتقاضى فيه الوزراء والمدراء أعلى رواتب في العالم، وتتعايش فيه المسيحية والبوذية والإسلام جنبا إلى جنب، فالمفروض أن ندرس مجددا تلك التجارب بعمق وبعقل منفتح، وهل يا ترى سر نجاحها هو جعل هدفها الأول: صناعة الإنسان الأخلاقي صاحب الضمير، وربما هذه هي الطريقة الأسرع للعيش سعداء أغنياء ومباركين.

***********************


***********************

google-playkhamsatmostaqltradent